قال الطوسي :(1) “وجملة علوم الدين لا تخرج عن ثلاث : آيات من كتاب الله عز وجل، وخبر عن رسول الله (صلع) وحكمة مستنبطة خطرت على قلب ولي من أولياء الله. وأصل ذلك حديث الإيمان حيث سأل جبريل النبي (صلع) عن أصول ثلاث : عن الإيمان والإسلام والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وصدقه على ذلك جبريل ثم قال : والعلم مقرون بالعمل، والعمل مقرون بالإخلاص، والإخلاص أن يريد العبد بعلمه وعمله وجه الله. وهؤلاء الأصناف الثلاثة في العلم والعمل متفاوتون في مقاصدهم، وفي درجاتهم متفاضلون… إلى أن قال : فكل من أشكل عليه أصل من أصول الدين وفروعه وحقائقه وحدوده وأحكامه ظاهرا أو باطنا فلابد له من الرجوع إلى هؤلاء الأصناف الثلاثة : أصحاب الحديث والفقهاء والصوفية. وفي هذا المعنى
قال الجد رحمه الله(2) في جواب له عن أول من أسس طريق التصوف : “وأما أول من أسس الطريقة وهل كان تأسيسها بوحي؟ فاعلم أن الطريقة أسسها الوحي في جملة ما أسس من الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي (صلع) بعدما بينها واحدا واحدا، دينا، فقال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان.
فالدين كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة، فمن أخل بمقام الإحسان الذي هو الطريقة فدينه ناقص بلا شك لتركه ركنا من أركانه. ولهذا نص المحققون على وجوب اتباع طريق التصوف وجوبا عينيا، واستدلوا على ذلك بما هو ظاهر عقلا ونقلا… إلى أن قال في جواب هل كان الصحابة صوفية؟ جواب هذا يعلم مما قبله، فإن الطريقة إن كانت من الدين، بل هي أشرف أركانه، وكانت بوحي كما قلنا، وكان الصحابة بالحالة التي بلغتنا عنهم تواترا، من المسارعة إلى الامتثال لأمر الله، كانوا بالضرورة أول داخل فيها، وعامل بمقتضاها وذائق لأسرارها وثمراتها، ولهذا كانوا على غاية ما يكون من الزهد في الدنيا والمجاهدة لأنفسهم ومحبة الله تعالى ورسوله والدار الآخرة، والصبر والإيثار والرضا والتسليم وغير ذلك من الأخلاق التي يحبها الله ورسوله وتوصل إلى قربهما، وهي المعبر عنها بالتصوف والطريقة، وكما كنوا رضي الله عنهم على هذه الحالة كان أتباعهم أيضا عليها وإن كانوا دونهم، وكذلك أتباع الأتباع وهلم جرا… إلى أن ظهرت البدع وتأخرت الأعمال، وتنافس الناس في الدنيا، وحييت النفوس بعد موتها فتأخرت بذلك أنوار القلوب وكادت الحقائق تنقلب، وكان ابتداء ذلك في أواخر المائة الأولى من الهجرة. ولم يزل ذلك يزيد ويشتد سنة بعد أخرى إلى أن وصل إلى حالة تخوف منها السلف الصالح على الدين، فانتدب عند ذلك العلماء لحفظ الدين، فقامت طائفة منهم بحفظ مقام الإسلام وضبط فروعه وقواعده، وقامت أخرى بحفظ مقام الإيمان وضبط أصوله وقواعده، وقامت أخرى بحفظ مقام الإحسان وضبط أعماله وأحواله، فكان من الطائفة الأولى الأئمة الأربعة وأتباعهم، وكان من الطائفة الثانية الأشعري وأصحابه، وكان من الثالثة الجنيد وأشياخه وأصحابه، فعلى هذا ليس الجنيد هو المؤسس للطريقة وإنما نسب إليه لتصديه لحفظ قواعدها وأصولها ودعائه للعمل بذلك عندما ظهر التأخر عنها. ولهذا السبب نفسه نسبت العقائد إلى الأشعري، والفقه إلى الأئمة الأربعة وغيرهم، مع أن الجميع بوحي من الله تعالى. انتهى.
(1) اللمع ص 22 و 23.
(1) التصور والتصديق في أخبار سيدي محمد بن الصديق ص 71 و 72 طبعة السعادة بمصر.