يحكى: عن الشيخ أبي عبد الله الإسكندري قال: كنت بجبل لكام أسيحُ راجياً رؤية الرّجال أو النساء من القوم الصالحين، فجمع اللهُ لي مُرادِي، فأول مَن لقيت امرأة، .. فلما رأيتها قلت في نفسي: لو كان اجتماعي برجل كان أحسن من امرأة!
فقالت: يا أبا عبد الله، ما رأيت أعجبَ من حالِك!!
أيريد الاجتماع بالرّجال مَن لم يصل إلى مقامات النساء؟!
فقلت: ما أكثر دعواك!!
فقالت: تُحرم الدعاوى بغير بيِّنَة.
فقلت: فما الذي لك من البيّنَة؟
قالت: هو لي كما أريد؛ لأني له كما يُريد.
قلت: فأريد الساعة سمكاً مشوياً طرياً؟
قالت: هذا مِن نزول مقامك، وافتِجاعِك في غِذائك وطعامِك؛ وهلا سألته أن يهب لك من الشوق جناحاً تطير به إليه كطيراني؟
ثم طارت وتركتني! فوالله ما رأيت أمرَّ مِن ذلي، وأحلى مِن عِزّها، فعدوت خلفها وقلت: يا سيدتي، بالذي أعطاك ومنعني، وجاد عليك وخذلني، جودي عليّ بدعوة؟
فقالت: أنت لا تريد إلا دعوة الرّجال! ..
فقلت لها: إن لم يكن الدعاء، فزوّديني منك بنظرة؟ ..
فقالت: إن الذي أنا فيه من الخطر أولى من اشتغالِك بالنظر.
قلت: والدعاء لا بد منه.
قالت: في غداتك تلقى السّيّد الداعي، والمولى المجيب الواعي، والمليح المقبول في المساعي.
ثم مرّت ولِحلو العَيش أمرَّت، وغابت عني وما غابت، بل بسهام حالها رمَت قلبي فأصابت! ثم بِتّ ليلتي ببليتي، وقد بلبلت بشرف بالها بالبالي، وقُطّعَت لمّا قطّعَت بسيف حُبّها أوصالي. فلما كان من الغد، إذا أنا برجل يزحف، وعليه آثار المآثر، وبه من الحبّ ثائر، فقلت: إن كان الرّجل المُشار إليه كما ذَكَرَت فهو هذا.
فأقبَلَ بإقبالِه وقَبُولِه عليَّ، وقال: نعم، هو هو.
قلت: يا سيدي، فلعلّ إرفادي بدعوة يكون لي بها عند الحبيب حظوة؟
فقال: يا أبا عبد الله، فاتك دعاءُ مَن ليس لها دعوى، أما كان عندك من بصر البصيرة ما تعرف به ” ريحانة الكُوفيّة “؟! ولكن يا أبا عبد الله، ما أقدر أم أدعو لك حتى تصل إلى مقام مجانيننا، وفي غدٍ تراهم وتؤمن بما مِن الوَجد اعتراهم.
ثم غاب عنّي فلم أره! فأدرَكني من الوَجد ما لا أعَبّرُ عنه، ولا أقدر على فراغي منه ..
فلما كان من الغد، إذا بقارئ يقرأ { وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاق عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه }، بصوت رخيم، من قلب حزين رحيم، يكاد سامعه يذوب شوقا، ومستحديه يتولّه جنونا وعِشقاً، ومُجارِيه لا يُجاريه سعياً وسبقاً؛ فالمطرود يُناديه بحضرة ناديه: كم تسعد وأشقى.
فقلت _ وقد استعبدني بحسن صوته رقا _: بالذي جاد بنعمة النغمة حقا، ارفق بقلب شقّه خوف الفراق شقاً، وجعله على لبة أطيار العِشق عنقا، وصيّرَه صريعا على مصارع أبواب أرباب الوَصل والوصول مُلقىً؟
فبرزَ لي رجلٌ قد خنقه الحبُّ خنقاً، وقال: ما تريد بالمجنون الذي دمعه لا يرقا، وجنونه لا يُداوى ولا يرقى، وعمره في الطريق ينادي الحريق، فما يرى نحو الغريق سحابا ولا برقا، ولكن قد أحالوك عليَّ في الدعاء بنسبة الجنون بيننا وفقا، فعليك بجناب المجانين، وانشق من حبهم نشقا، والزم سنة سيدنا محمد صلاة تدوم وتبقى، واحذر أن تخرج عنها فتسمع منه وقد غضب { سحقاً سحقا }.
فقلت: أوصني؟
فقال: ارحم نفسَك من الذنوب؛ فإنها ضعيفة، وأرفق بها رفقا، وإياك ودنياك؛ فإنها تجعل أعالي أبنائها ببحرها غرقى، وأوساطهم شرقى، وأدناهم حرقى. ومع هذا متّعك الله قبولا ووصولا وصِدقا، وجعلك من قوم رضي الله تعالى عنهم فقال عزّ من قائل: { أولئك هم المؤمنون حقاً }، ولا أحرَمك لذّة النظر، ولا جعلك ممن يقنع بعد العيان بالخبَر.
ففهمت ما أشار إليه، رحمة الله تعالى عليه.