هو رجل يعتبر من أعيان السلف، وزهّاد الخلف، عاش شطرين من حياته، كان في الأول مسْرِفاً على نفسه غارقاً بالشهوات، منصرفاً إلى الدنيا والملذّات، وصار في الشطر الثاني عابداً زاهداً ورعاً، ومضرب المثل في الانقطاع لله تعالى؛ والخشية من جلال الله.
إنَّه بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَاهَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ أَبُو نَصْرٍ الزَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْحَافِي، نَزِيلُ بَغْدَادَ. قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وكان اسم جده عبد الله الغيور، أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالى عنه.
مولده :
كَانَ مَوْلِدُهُ بِبَغْدَادَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ للهجرة، وَسَمِعَ بِهَا شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَابْنِ مَهْدِيٍّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ جماعة منهم أبو خيثمة، وزهير بْنُ حَرْبٍ، وَسَرِيٌّ السَّقَطِيُّ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سعيد: سَمِعَ بِشْرٌ كَثِيرًا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ وَاعْتَزَلَ النَّاسَ وَلَمْ يُحَدِّثْ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ في عبادته وزهادته وَوَرَعِهِ وَنُسُكِهِ وَتَقَشُّفِهِ.
حرص الزاهدين على تلقّي العلم:
بهذا الذي ذكره ابن كثير والذهبي وغيرهما عن سيرة بشر الحافي رحمه الله تعالى تندفع شبهات من يلصق به وبأمثاله من رموز التصوف العملي الذي عاشه السلف وذلك حين يقولون أن أهل التصوف أو يخصّون بشر الحافي بمقولة لا أصل لها وهي أنهم انصرفوا إلى الزهد والعبادة على جهل وترْك للعلم، والواقع أن سيرة بشر الحافي وأمثاله حافلة بتلقّي العلم وتعليمه، ولكن علماء السلف كانوا يضيفون إلى العلم الزهد والتنسُّك والورع والزهادة، كما عرفنا من سيرة بشر الحافي وغيره، مع أن الكثيرين ممن يحرصُ على العلم يفتقرون إلى العمل والتنسّك فيغلب عليهم الجمود على المسائل وجفاف الروح من ثمرات العلم (العمل والإخلاص والذكر والتضرع لله…إلخ) الذي عُرف به بشر الحافي العالم الصالح.
سبب توبته:
ولقد ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ بِشْرًا كَانَ شَاطِرًا فِي بَدْءِ أَمْرِهِ، يعني كان قد أعيا أهله بالتمرّد والعصيان حتى صار مشتهِراً بالفسق والمخالفة لكنه في لحظة صادقة رجع إلى ربه وآب وتاب توبة الصادقين، وقد وردت عدة روايات في سَبَبِ تَوْبَتِهِ، منها: أَنَّهُ وَجَدَ رُقْعَةً فِيهَا اسْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَتُونِ حَمَّامٍ فَرَفَعَهَا وَرَفَعَ طَرَفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: سَيِّدِي اسْمُكَ هَاهُنَا مُلْقًى يُدَاسُ! ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى عَطَّارٍ فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ غَالِيَةً يعني (أَخلاطاً من الطيب كالمسك والعنبر) وَضَمَّخَ تِلْكَ الرُّقْعَةَ مِنْهَا وَوَضَعَهَا حَيْثُ لَا تُنَالُ، فَأَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ وَصَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ. (البداية والنهاية: ١٠/٢٩٧ وما بعدها، بتصرف)
وفي قصة توبته درس لكل نبيه بأن لا يستهين بأي أمرٍ من أمور التعظيم لشعائر الله، فقد يكون سبباً لرفع شأن العبد عند الله وعند العباد كما حصل لبشر الحافي رحمه الله تعالى وقد ورد عنه أنه رأى فيما يرى النائم كأنَّ قائلاً يَقُول لَهُ: يا بشر، طيَّبتَ اسمي لأُطيِّبنَّ اسمك فِي الدنيا والآخرة. (الرسالة القشيرية: صـ٤٨، وفيات الأعيان لابن خلّكان: ١/٢٧٥)
لقبه:
ويروى أنه لقِّب بالحافي لأنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعاً لإحدى نعليه، وكان قد انقطع، فقال له الإسكاف: ما أكثر كُلفَتَكم على الناس! فألقى النعل من يده والأخرى من رجله، وحلف لا يلبس نعلاً بعدها.(وفيات الأعيان لابن خلّكان: ١/٢٧٦)
وذكر الإمام القشيري أيضاً في رسالته فقال سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: بلغني أن بشر بن الحارث الحافي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا بشر، أتدري لم رفعك الله من بين أقرانك؟ قلت: لا، يا رسول الله. قال: باتِّباعك لسنَّتي، وخدمتك للصالحين، ونصيحتك لإخوانك، ومحبتك لأصحابي، وأهل بيتي: وهو الذي بلَّغك منازل الأبرار. (الرسالة القشيرية: صـ٣٢)
دعوته للعلم والعمل:
يعتبر بشر الحافي ممن قرن بين العلم والعمل، وكانت دعوته للعلماء والناس أن يجدّوا في ذلك مع الإخلاص وهذه من الربّانية التي دعا إليها القرآن، ولقد قال بعضهم: سمعت بشر الحافي يقول لأصحاب الحديث: أدّوا زكاة هذا الحديث؟ فقالوا: وما زكاته؟! قال: اعملوا من كل مئتي حديث بخمسة أحاديث.(وفيات الأعيان لابن خلّكان: ١/٢٧٦، تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي للحافظ جلال الدين السيوطي)
بشر الحافي حكيماً واعظاً:
كان رحمه الله تعالى معروفاً بحكمته ورجاحة عقله، وتاثيره في مواعظه، فقد قيل له مرة: بأي شيء تأكل الخبز؟ فقال: أذكر العافية فأجعلها إدامًا.
كان من دعائه: اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة فاسلبها عني.
ومن حكمه: كان يقول في جنازة أخته: إن العبد إذا قصَّر في طاعة الله سلبه الله من يُؤنِسه.
هذه لمحة يسيرة من سيرة الزاهد بشر الحافي رحمه الله تعالى.
وفاته:
اختلف في سنة وفاته ومكانها، فرجح بعض المؤرخين أنها توفي رحمه الله في سبع وعشرين ومائتين، يوم الأربعاء عاشر المحرم، وقيل: في رمضان بمدينة بغداد، رحمه الله تعالى.(وفيات الأعيان لابن خلّكان: ١/٢٧٥)
وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بَكرة أبيهم، فأُخرِجَ بعد صلاة الفجر فلم يستقرَّ في قبره إلا بعد العتمة. وكان علي المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلى صوته في الجنازة: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة، وقد روي أن الجن كانت تنوح عليه في بيته الذي كان يسكنه. وقد رآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ولكل من أحبَّني إلى يوم القيامة.(المرجع السابق بتصرف، والبداية والنهاية: ١٠/٢٩٧)