والناس في اتخاذ [ مشايخ التربية ] والأخذ عنهم طائفتان :
طائفة : قنعت بالتزام الخير جملة من غير تفصيل ، مصطلحين مع أنفسهم على حفظ الحدود ,لم يتجردوا ( لخلاصها ) مما وراء ذلك ، فهؤلاء لا بأس أن يضرب لهم بسهم في النصيحة العامة ، فيدلوا على ما يواصلون به حفظ الحدود، من غير أن ينصب عليهم ميزان المحاسبة ، ولا يضيق عليهم بالمناقشة فيما سوى الحدود ، من أداء واجب وترك حرام ، مع التزام السنن الثابتة ، وشيء من نوافل الخير على وجه التوسل للتوصل إلى الأجر والثواب , وهؤلاء هم الأكثرون.
وطائفة : شدوا حيازيم العزم وقاموا على قدم الجد في طلب الخلاص التام من جميع علل النفس ، قاصدين معرفة الله تعالى بطهارة أنفسهم ، وتصفيتها بالسلوك على طريق أهل الاختصاص ، الذين استجابوا لله تعالى حين نادى بهم منادي التخصيص إلى حضرة المقربين .
وما اقل هذه الطائفة و أعزها اليوم في الوجود .
لكن إذا هيأ الله تعالى واحدا منهم وتعرض إلى شيخ وارث قدوة رباني ، قاصدا معاناة نفسه من أمراضها ، وطبها من عللها ، وتصفيتها من كدراتها ، وتخليصها من رق هواها ، والاهتداء بذلك إلى معرفة الواحد الحق ، فينبغي للقدوة أن يلحظه بعين الرعاية، ويعطف عليه بإطناب القبول ، ثم يتأمله بنور الكشف .
فإن وجد فيه قابلية اختصاصية تعرب عن الأهلية ، بادر إلى معاناته ، وأخذ في إرشاده ، فيرتب أحواله وتصاريفه ، ويلقى إليه ما يناسبه من الأذكار والمقاصد ، وما يوافقه من الحكم والفوائد ، ويهديه إلى ما يخصه من وظائف الدين ، ويرشده إلى الطريق ( المبين ) ، وينصب عليه ميزان المحاسبة والمناقشة على قدر حاله وقوته وتمكينه ، ويسلك فيه مسلك التدريج شيئا فشيئا ، ويستطيع ما يخلق الله تعـالى عنده ، وما يفتح له فيه من جنبات تصاريفه وأنفاسه، وحركاته وسكناته ، من يقظته ونومه .حتى إذا أعطى كل ذكر حقه ، ولاحت عليه ثمرته ، وارتقى من منزل إلى منزل ، وصعد من مقام إلى مقام ، حتى بلغ الغاية من تصفية نفسه ووصل إلى النهاية من طهارتها ، وظفر بمعرفة ربه ، ولاحت له أنوار الحقائق من جنبات عرصات ثمرات أسرار التوحيد ، حتى لو كشف الغطا لم يزدد يقينا ، فعند ذلك ملَّكَه القدوةُ زمامَ نفسه ، وأمَّنه على حفظ سره ، وأعلمه أنه على بينة من ربه .فإن كان ممن أهله الله تعالى الهداية غيره ، أذن له في ذلك ، وإلا قصر نظره على نفسه .وينبغي للتلميذ في سلوكه أن لا يتهم قدوته في شيء ، وأن لا يكتم عنه شيئا مما قل أو جل ، وأن يضيف الكمال له ، ويبالغ في تعظيمه وتوقيره ، ومراعاة إشارته، والإهتبال – بملازمة الأدب معه – إلى امتثال أمره ونهيه . والله هو الفتاح العليم([1]) .