الفضيل بن عياض [عابد الحرمين]

الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى:

هو الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر، الإمام، القدوة، الثبت، شيخ الإسلام، أبو علي التميمي، اليربوعي، الخراساني، المجاور بحرم الله، ولد بسمرقند، ونشأ بأبيورد، وارتحل في طلب العلم.. (سير أعلام النبلاء: ٧/٣٩٣)

قال إبراهيم بن الأشعث: “ما رأيت أحداً كان الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكَرَ الله أو ذُكِرَ عنده أو سَمِع القرآن ظهر به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه مَن بحضرته، وكان دائم الحزن شديد الفكرة ما رأيت رجلاً يريد الله بعلمه وأخذه وإعطائه ومنعه وبذله وبغضه وحبّه وخصاله كلّها غيره» يعني: الفضيل”. (حلية الأولياء: ٨/٨٤)

مكانة الدنيا عند الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى:

لقد ترك الدنيا وجعلها خلف ظهره كأنما طلّقها طلاقاً بائناً، وأقبل على عبادة ربه سبحانه وتعالى، قال عبد الصمد بن يزيد: سمعت الفضيل بن عياض يقول: “ما لكم وللملوك مَا أَعْظَمَ مَنَّهُمْ عَلَيْكُمْ، قَدْ تَرَكُوا لَكُمْ طَرِيقَ الآخِرَةِ، فَارْكَبُوا طَرِيقَ الآخِرَةِ، وَلَكِنْ لا تَرْضَوْنَ تَبِيعُونَهُمْ بِالدُّنْيَا ثُمَّ تُزَاحِمُونَهُمْ عَلَى الدُّنْيَا، مَا يَنْبَغِي لِعَالِمٍ أَنْ يَرْضَى هَذَا لِنَفْسِهِ“. (حلية الأولياء: ٨/١٠٢)

وقال الفضيل – رحمه الله تعالى -: لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا عُرِضَتْ عَلَيَّ حَلَالًا لَا أُحَاسَبُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ لَكُنْتُ أَتَقَذَّرُهَا كَمَا يَتَقَذَّرُ أَحَدُكُمُ الْجِيفَةَ إِذَا مَرَّ بِهَا أَنْ تُصِيبَ ثَوْبَهُ. (حلية الأولياء: ٨/٨٩)

قصة الفضيل مع أمير المؤمنين هارون الرشيد:

هذه القصة تدلّ على مدى شجاعة الفضيل وتعفّفه وزهده، وقدرته على مواجهة السلطة بالحكمة، من دون وجَل ولا تردد..،

فقد أخبرنا الفضل بن الربيع وزير أمير المؤمنين هارون وقال: كان أمير المؤمنين في الحج فحدّثني قائلاً: ويحك، قد حكَّ في نفسي شيء؛ فانظر لي من أهل الفضل أستفسره، فأخبرته عن سفيان بن عيينة، فذهبنا إليه، حتى وصلنا عنده فقرعنا عليه الباب، فقال: من؟ قلت له: أجِبْ أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً وقال: يا أمير المؤمنين هلا أرسلت إليَّ لجئتك، فحادثه لمحة ثم سأله: هل عليك دَين؟ قال: نعم، فقال: أبا عباس اقضِ دَينه.

فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبُك شيئاً، انظر لي رجلاً أسأله، قلت: هاهنا الفضيل بن عياض، قال: امض بنا إليه، فأتيناه، فإذا هو قائم يصلي، يتلو آية يردّدها، فقال: اقرع الباب، فقرعت، فقال: من هذا؟ قلت: أجِبْ أمير المؤمنين، قال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ قلت: سبحان الله! أما عليك طاعة، فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة، فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية، فدخلنا، فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كفُّ هارون قبلي إليه، فقال: يا لها من كفّ ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله، فقلت في نفسي: ليكلمنّه الليلة بكلام نقيّ من قلب تقيّ، فقال له: خذ لما جئناك له -رحمك الله- فقال:إن عمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى – لما وليَ الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتُلِيتُ بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ. فعدَّ الخلافة بلاءً، وعددتَّها أنت وأصحابُك نعمةً.!

فقال له سالم: إن أردت النجاة، فصم الدنيا وليكن إفطارك منها الموت.

وقال له ابن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم ولداً، فوقّر أباك، وأكرمْ أخاك، وتحنَّن على ولدك.

وقال له رجاء: إن أردت النجاة من عذاب الله، فأحِبَّ للمسلمين ما تحبُّ لنفسك، واكرَهْ لهم ما تكرَه لنفسك، ثم مُت إذا شئتَ، وإني أقول لك هذا، وإني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تَزِلُّ فيه الأقدام، فهل معك -رحمك الله- من يشير عليك بمثل هذا. فبكى بكاء شديداً حتى غشي عليه.

فقلت له: ارفقْ بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا؟! ثم أفاق، فقال له: زدني -رحمك الله- قلت: بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى – شكى إليه، فكتب إليه: يا أخي أذكِّرُك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإيَّاك أن ينصرف بك من عند الله، فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم عليه، فقال: ما أقدمَك؟ قال: خلعتَ قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولايةٍ حتى ألقى الله، فبكى هارون بكاء شديداً،

فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عمّ النبي – صلى الله عليه وسلم – جاء إليه فقال: “

أمِّرْني، فقال له: إن الإمارة حسرةٌ وندامةٌ يوم القيامة، فإن استطعت ألّا تكون أميراً فافعل

“. فبكى هارون، وقال: زدني، قال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار، فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غشٌّ لأحد من رعيّتك، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: من أصبح لهم غاشًّا لم يرحْ رائحة الجنة.

فبكى هارون وقال له: عليك دَين؟ قال: نعم، دَينٌ لربي، لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن ساءَلني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم أُلْهَمْ حُجَّتي.

قال: إنما أعْنِي من دَين العباد. قال: إنَّ ربي لم يأمرني بهذا، أمرني أن أصدق وعده، وأُطيع أمره، فقال – عزَّ وجلَّ -:

(وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ). [الذاريات: ٥٦]

فقال: هذه ألف دينار خذها، فأنفقْها على عيالك، وتقوَّ بها على عبادة ربّك، فقال: سبحان الله! أنا أدلّك على طريق النجاة، وأنت تكافئُني بمثل هذا. سلَّمك الله، ووفَّقك.

ثم صمَتَ، فلم يكلّمْنا، فخرجنا، فقال هارون: أبا عباس، إذا دلَلْتَني، فدُلَّني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.

فدخلت عليه امرأةٌ من نسائه، فقالت: قد ترى ما نحن فيه من الضِّيق، فلو قبِلتَ هذا المال. قال: إنما مثلي ومثلكم كمثل قومٍ لهم بعيرٌ، يأكلون من كسبه، فلما كبِرَ نَحَروه، فأكلوا لحمَه، فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل، فعسى أن يقبَل المال، فلما علم الفضيل، خرج، فجلس في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون، فجلس إلى جنبه، فجعل يكلّمه فلا يُجيبه، فبينا نحن كذلك إذ خرجتْ جاريةٌ سوداء، فقالت: يا هذا! قد آذيتَ الشيخ منذ الليلة، فانصرفْ، فانصرفنا. (حلية الأولياء: ٨/١٠٥، سير أعلام النبلاء: ٧/٣٩٧)

مواعظ وعبر من القصة:

لقد تعلَّمنا من هذه القصة فوائد وعبراً عظيمة، أهمها:

  • انصراف القلب والنفس عن طلب الدنيا وكذلك عدم الرغبة في ملذاتها ومتاعها..
  • علينا أن نرغب في الجنة ونعيمها لنحصل على السعادة الأبدية.
  • عدم المزاحمة على الدنيا لأنه يعني المزاحمة ليس من شأن العلماء والزهاد..
  • ينبغي للإنسان أن يواجه السلطة بالحق والحكمة ولا يخاف منه ولا يرغب منه بشيء.
  • وعلى المرء إذا استنصحه أحد فعليه أن ينصحه بالحق وبطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بدون مقابل.
  • وعليه أن يكون مخلِصاً في ذلك حتى يكون محلاً للقبول والاستجابة بإذن الله تعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Sahifa Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.